المباشرة والمناورة أو كيف يفكر كوِنتن تَرنتِنو؟

كونتن ترنتنو

تشتهرُ أفلام المخرج الأمريكي كوِنتن تَرنتِنو الحائز على جائزتي أوسكار بالعنف المفرط والشتائم والألفاظ البذيئة، والشخصيات الإشكالية، والحوارات المتقنة، لكن على الرغم من تنوع أفلامه وتعددها إلا أن هناك خيط صغير يربطها جميعًا منذ فِلمه «كلاب المستودع» عام 1992 الذي حجز له مكانًا في قائمة أفضل مخرجي هوليود المعاصرين، وعلى الرغم من تعدد المداخل الممكنة لأفلامه إلا سنتناول جانب واحد هنا، وهو الآلية التي يعالج فيه قضايا أفلامه على مستوى الحبكة والمشهد. 

تُعرّف الحبكة على أنها ترابط الأجزاء التي تؤلف كلًا متلاحمًا، وهي فنيًا سياق الأحداث وتسلسلها المنطقي وصولًا للخاتمة، أما المشهد فهو ما يُشاهد ويقع عليه النظر وفي السينما هو منظر معين في تقاطع زمكاني واحد. يتعامل كوِنتن تَرنتِنو مع هذين المكونين الفنين بشكل مميز يخالفُ فيه بقية المخرجين الذين يعلمون داخل النوع  (genre) السينمائي نفسه، فنحن نتوقع مجريات الأحداث عندما نقرر مشاهدة فِلم جريمة، أو فِلم عن الغرب الأمريكي، أو فِلم عن الحرب العالمية الثانية، ما يفعلهُ تَرنتِنو هو قلب الأمور رأسًا على عقب، وبدل أن يباشر النوع السينمائي (مثل الجريمة – سرقة بنك- تاريخي… إلخ) كما يفعل غيره متتبعًا تقاليده وممارساته الفنية، يناوئه ويقدم حبكة ومشاهد جديدة قديمة في نفس الوقت، يشعر معها المشاهد بأنه يشاهد فلمًا قديمًا ولكن جديدًا في الوقت عينه، كما اشتهر عن تَرنتِنو قدرته الهائلة على الإحالة إلى الكثير من الأفلام في أفلامه، ولكنه يقدم إضافته الخاصة في لكل مشهد أو حبكة يستعيرها. 

يعمل تَرنتِنو داخل تاريخ وأرشيف السينما الأمريكية ونال موضوع استعارته/سرقته مشاهد كثيرة من أفلام شمال أمريكية وأخرى غرب أوروبية وحتى يابانية نقاشات عديدة، لكنه على مستوى الحبكة لا يقوم كما يفعل أي مخرج ثانٍ عند تناوله لفلم مثل سرقة بنك أو محل جواهر بمعالجة المشاهد كما تعودنا عليه: من مشهد التخطيط للعملية، للاقتحام وفشل العملية، من ثم المطاردة والنهاية، بل يتناول الجوانب المسكوت عنها في الحبكات التقليدية. إن سينما كوِنتن تَرنتِنو لمن ضجروا بالحبكات التقليدية للأفلام الأمريكية، ويمكن أن نلاحظ ذلك في فلم «كلاب المستودع» الذي جعل من مشهد التخطيط للسرقة حوارًا في مطعم حول المحتوي الجنسي في أغاني البوب، وأخلاقية البقشيش، دع عنك أننا لم نرَ الحدث الأهم في الفلم أي مكان العملية التي نفذوها، الفلم كله يدور حول صدى العملية، لا العملية نفسها، وقس على ذلك؛ فمثلًا في فلم «خيال رخيص 1994» يعيد ترتيب الإطار الزمني لأحداث الحبكة بطريقة معكوسة فيجعل مشهد النهاية هو مشهد الافتتاح، ويعيد نسج الأحداث كيفما يحلو له. 

تعودنا مثلًا على مستوى مشهدي في أي فلم عن الغرب الأمريكي، خاصة أفلام صيادي الجوائز، أن نشاهد البلدة بحانتها، وبيت دعارتها، ومتجر الخردوات، والعمدة بالنجمة الذهبية على صدره، والمساحات الواسعة للجبال والصحارى، ورعاة البقر يمتطون ظهور أحصنتهم من مكان لمكان، إلا أننا في فلم «المقيتون الثمانية 2015» نرى المشاهد كلها مقلوبة رأسًا على عقب، فالمشهد الافتتاحي في صحراء لكن ثلجية بيضاء، والشخصيات لا تتعرف على بعضها في حانة بل داخل عربة صغيرة، ثم لاحقًا في محل خردوات، ومسارح الأحداث كلها في أماكن مغلقة، بل أبعد من ذلك فالشخصيات نفسها مقلوبة؛ فالرجل الأسود ليس على هامش الأحداث بل في قلبها وهو ليس ضحية بل جلاد لا يرحم.

 الأمر عينه، لكن على مستوى الحبكة أكثر، شاهدناه في فلم «جانغو طليقًا2012 » ورفيقه الألماني (الشخصية التقدمية الوحيدة في الفلم) وربما الألماني غير العنصري الوحيد في السينما الأمريكية. وكذلك في فلم «أوغاد مجهولون 2009» عن كتيبة من اليهود يغتالون الجنود النازيين هو أمر يناقض تمامًا اليهودي الضحية الذي تعودناه في سينما الحرب العالمية الثانية. 

هي القصة عينها في بقية أفلامه مثل فلمه الأخير: «كان يا مكان في هوليود» التي تجلت فيه هذه الآلية على أحسن وجه، بين ممثل مشهور وآخر بديل (كومبارس) والفلم يركز على الاثنين، مثل تركيز باقي أفلامه على كلا وجهي القمر. وفلم «اقتل بل» بجزئيه، وقلب الفلسفة البوذية الزنّية على رأسها بجعل الشخصية الرئيسة حبيسة الانتقام، ومرشدها، ووالد ابنتها، زعيم عصابة. كما لا يتردد المخرج الأمريكي في خلط التاريخ كما يريد مثل مشهد قتل هتلر في فلم «أوغاد مجهولون 2009» وفِلمه الأخير وجريمة قتل شارون تيت وأصدقائها من قِبل أفراد من عائلة مانسُن وإعادة كتابة كل الحادثة لينتصر فيها الضحية. 

يقلبُ كوِنتن تَرنتِنو كل ما اعتدنا عليه رأسًا على عقب؛ فيسطّح العميق ويعمق السطحي، ويُعلي الهامش، ويزيح المركز، ويرينا الحياة في العادي لا الاستثنائي، لتصبح أفلامه أفلامًا عن الأفلام، بالفعل إن سينما كوِنتن تَرنتِنو هي سينما السينما. 

أضف تعليق