مراجعة لمسلسل الكرتون الأمريكي «رِك ومورتي» 

منذ صدوره عام 2013 والمسلسل الكرتوني الأمريكي الشهير «رِك ومورتي» على شبكة نتفلكس يلاقي النجاح تلو الآخر سواء لدى النقاد أو المشاهدين. وتدور أحداث المسلسل الذي انتهي الجزء الخامس منه قبل فترة وجيزة، حول مغامرات العالم العبقري «رك سانشيز» وحفيده المراهق «مورتي سمث» في الفضاء الخارجي وبين العوالم الموازية، نال المسلسل الكثير من النقد والتحليل، صب غالبه على معالجة المسلسل للأسئلة الوجودية للإنسان، وبعض الإشارات الفلسفية لعدد من الفلاسفة منهم الالماني فردرخ نِتشه والفرنسي ألبر كامو وغيرهم، سنتناول في هذه المقال هذا الجانب مع الإضاءة على بعض التفاصيل الفنية المساعدة منها مفهوم «البطل المُخالف للعرف antihero» وأخيرًا، ماذا يعني أن نشاهد المسلسل من خارج الولايات المتحدة الأمريكية؟

| البطل والبطل المخالف للعرف 

قبل أن نعرّف البطل اللاعرفي يجب أن نعرّف البطل خاصة في سياق جهاز الترفيه الفني الأمريكي. مرّت الشخصية الرئيسة «البطل» في الأعمال الفنية الأمريكية بمراحل مختلفة منذ فترة الخمسينيات ومع بداية دوران المكنة الأمريكية السينمائية، شاهدنا البطل المثالي ذو الخيرية المطلقة، والذي لا يُهزم ولا تشوب مبادئه شائبة، ويحاول دائمًا أن يخّلص العالم من الشر المطلق الذي يتمثل في الآخر الغريب الذي يفتقر إلى أية قيمة أو بوصلة أخلاقية مثلما كانت الحالة في الكثير من أفلام رعاة البقر، لكن سرعان ما فاض الناس بهذا النوع المثالي فأصبحت الشخصية الرئيسية أكثر (طبيعية) مع الزمن وصرنا نراه ضعيفًا ومهزومًا وأحيانًا كثيرة بعلامات استفاهم حول قيمه ومبادئه، ومع ذلك لا يعدم هذا النوع من الشخصيات حضورًا في الكثير من الأعمال الفنية المعاصرة.  

أما البطل اللاعرفي فهو بدايةً ليس حكرًا على الأعمال الفنية الأمريكية ولا وليدها؛ فهو حاضر في الكثير من القصص والحكايات حول العالم، لكن في السياق الأوروأمريكي نجده منذ إلياذة هوميروس وشخصية «ترستيس Θερσίτης»، إلى جانب البطل اللاعرفي الأشهر ربما في التاريخ الأوروبي «دون كِخوت» ورفيق مغامراته «سانشو»، والكثير غيرهم سواء في الحكايات، أو والروايات، أو الأفلام، وعلى تنوع صفات البطل اللاعرفي إلا أنهيتميز كما صاحبنا «رِك» بافتقاره لصفات البطل الشهيرة من الخيرية والتضحية بالنفس من أجل الآخر وتخليص العالم من الشرور  وما شابه، فيبحث دائمًا عن مجده الشخصي، ويعكس يأسه من العالم في كل المناسبات، لكن عندما يرافق هذه الشخصية محتوي فلسفي تصبح المتعة مضاعفة. 

|  التساؤلات الوجودية والبحث عن معنى على الطريقة الأمريكية

تُرافق العديمة البطل اللاعرفي في الكثير من القصص حتى وأن لم يُصرح بها علنًا، ولكن العدمية التي نتناولها في سياق هذا المسلسل الكرتوني مأخوذة كما لدى البِر كامو؛ أي برفض الإيمان بأي معنى، لا مجرد غياب الإيمان بمعنى ما، وهذه بالفعل الثيمة الغالبة في المسلسل، ولكن موقف «رك» لا ينتهي بهِ لأن يكون عدميًا شوبنهاوريًا (نسبة للفيلسوف الألماني شوبنهاور) أي سلبيًا في وجوده، ومنعزل عن المجتمع ويقطن أعلى قمة جبل، بل هو فاعل بشكل تام في وجوده، ولكن فاعليته غير مسؤولة نهائيًا عن تبعاتها، ويحيا الحياة كما هي مطاردًا أهدافه بدون أدنى اكتراث بما يجري حوله. إن شخصية «رِك» واعية تمامًا بكل شيء يدور حولها، وبجميع المشاكل التي يعاني منها محيطه، لكنها أخذت قرارًا نهائيًا بألا تُترجم هذا الوعي في أمر غير ذي نفع لها. ونلاحظ كذلك في عدة حلقات كلما حاول مورتي أو اخته «سمر» تصحيح ممارسة ما لا يتفقون معها لدى جماعة فضائية معينة تنتهي محاولاتهم بإفساد الأوضاع أكثر، وهذه مسمار آخر في نعش البطل المخلّص الذي صدّعت الأجهزة الترفيهية الأمريكية رؤوسنا بهِ لسنوات كثيرة. 

ولكن فلسفة مسلسل رك ومورتي هي فلسفة الثقافة الشعبية «البُب» الأمريكية، وتناسب ثقافة المِميز، والقفشات السريعة التي يتميز بها فضاء الإنترنت في أيامنا، فتناول المسائل الوجودية للإنسان تناولٌ سطحي للغاية، وهو بالتأكيد ليس مطالب بأكثر من هذا؛ فهو في نهاية المطاف مسلسل كرتوني يتوسل التسلية والضحك لا أكثر. لكن هذا لا يمنع بأن الموقف المعرفي الذي يتبناه رك مثير، ولكنه «جنّك فود» منها مثلًا، إنكاره القيم الناظمة لأي جماعة بناءً على وجود قيم مختلفة/مناقضة لجماعات موازية لا تُحصى، وهذه مغالطة؛ فسياق المقارنة أولًا إشكالي لرحابته وتمطط حدوده حتى الاختفاء، وثانيًا في هذا امتهان لخصوصية الإنسان ابن نسق ثقافي جماع معين سواء اعتقد به أو انتقده إلا أنه مكون نفسي واجتماعي أساسي له، وجزء من هويته التي لا يشبهه فيها أحد. كما أن نفي أي قيمة وأي معنى هو بحد ذاته قيمة ومعنى وموقف، و رك لا يهرب من إمكاناته البشرية وإن كان شخصية فوق بشرية إلا أن مسحوب بشكل دائم لعائلته التافهة على الرغم من وجود ملايين العائلات الموازية، وأخيرًا، أن تكون الشخصية الرئيسة في مسلسل ينتقد المعتقدات والممارسات الدينية بشكل دائم شخصية بلياقات إلهية هو بحد ذاته مفارقة مثيرة، ولكن هذا موضوع لنقاش آخر. 

| المعالجة التقنية 

أما على المستوى التقني، فالمسلسل ولد من رحم الثقافة الشعبية الأمريكية، وابن المسلسلات والأفلام وبرامج الترفيه الأمريكية، لكنه ابن عاق يمارس نقدًا وهمزًا ولمزًا دائمًا لها، بل ويسخر منها بأخذ مواقفها الفكرية والمعرفية إلى أقصاها المحتمل مثلما نرى في تلفاز رك وقنواته الفضائية، التي تنتقد ثقافة الترفيه المبتذلة لكثرة الاجترار والسذاجة والاستحمار، كما تنتقد ثقافة الاستهلاك المستشرية في المجتمع، ولكنها لا تكترث نهائيًا بها؛ فهي تؤمن بأنها فاشلة ومدمرة ومع ذلك لا بديل عنها. وهو في هذه يشبه مسلسل عائلة «سمبسون» الشهير، لكنه نسخة ما بعد حداثية لهُ؛ ففي حين أن شخصيات السِمبسون كانت تحاول دائمًا تغيير واقعها ونظامها حياتها للأفضل، لا يرى مسلسل رك ومورتي حاجة لإيجاد نظام ثانٍ أفضل حتى وإن كان الحالي معطوب فهذه هي إمكانات البشر. 

 وأخيرًا، وهنا عبقرية المسلسل، يلعب المسلسل على مستوى فني لعبة تقنية ذكية في طريقة علاجه لحبكة كل حلقة، من خلال «رِده تقنية» على الحبكات التقليدية ومعارضتها بشكل دائم، ورفض التسليم بالحكمة المختبئة وراء حل العقدة الموجودة في كل قصة، فتكون نضارة الحبكة على أتمها، ويشعر المشاهد بأن شاهد أمرًا خالف توقعاته وهذا بحد ذاته أمر ممتع، ودليل على حضور ذهني عالي للقائمين على المسلسل، ووجود قرار واعي بترك الأمور على ما هي ورفض المعنى حتى وأن ووجد. دع عنك أن التقنية الفنية العامة للمسلسل هي تمرد فني – أي ضد تقنية – على حدود النوع الفني الخاص بالمغامرات، والمسلسل شكوى من صعوبة فعل هذا، أي صعوبة الخروج على ما هو قائم فعلًا من حدود النوع نفسه، خاصة وأن الخروج هو وصول لمعنى جديد، ويعني بالضرورة إيجاد كذبة جديدة، وترفيه جديد خالٍ من المعنى أيضًا.

من الجوانب التقنية المثيرة أيضًا شخصية مورتي التي تجسد المشاهدين، ويأخذهم رك معه في رحلات ويشرح لهم مجريات الأمور، وما هي القوانين التي يجب اتباعها لكي تنجو في الكون، ويشرح لهم مدى حقارتهم في هذا الكون الشاسع، ولكن وبشكل ذكي نرى في حلقتين بأن مورتي هو من يتحكم في رك، بل ويرشح نفسه للانتخابات في قلعة رك «رك سيتي ديل» والحال نفسها مع المشاهدين الذي لولاهم ما رأينا رك أصلًا، والمسلسل هنا يمارس «ميتا نقد» لنفسه، وهو ما اعتدنا عليه من المسلسل، بالإضافة لكسر الجدار الرابع بشكل شبه دائم. 

| الأنا والآخر في الثقافة الأمريكية

أخيرًا لا يخرج المسلسل، وما كان له ذلك، عن ثنائية «الأنا والآخر» في الثقافة الأمريكية، والآخر نراه في المجرة على هيئة كائنات فضائية متنوعة؛ غريبة ومقززة في الغالب، وبالطبع رِك أقوى وأذكى مخلوق في المجرة، وكذلك باقي الركات «جمع رك»، ولا يستطيع التغلب على رِك إلا رِك، كما أنه يتجول في المجرة كما لو كانت مُسجلة (طابو) لآل سانشيز، ناهيك عن الإسقاطات المتعددة عن بعض الجماعات الأرضية على جماعات فضائية، صحيح أن الكون شاسع ومترامي الأطراف في المسلسل والبشر جزء بسيط وتافه جدًا مقارنة بهِ، لكن وعلى الرغم من ذلك لا ينطبق هذا على رِك سانشيز، بالطبع تصوير الآخر في المسلسل بهذا الشكل هو إسقاط من الذات لا أكثر وليس تعبير حقيقي عن الآخر. وأخيرًا، نحن نشير فقط إلى هذه الثنائية، وما لنا أكثر من ذلك فالمسلسل في نهاية المطاف صناعة أمريكية، ونحن لسنا مصابون بعقدة «ماما أمريكا» وننتظر أن تحنّ علينا بأن تدخلنا كرامًا في سردياتها. 

أضف تعليق